مقال خاص

ترجمة المؤلفات العž

Kam, 22 Mei 2008 | 04:01 WIB

أحمد غينانجار الشعبان
A. Ginandjar Sya’ban
باحث إندونسي ساكن بالقاهرة.رئيس تحرير مجلة "نوانسا" للدراسات الشرقية—الإسلامية

لقد سجل التاريخ أن القرن 13 هو بداية عصر الإنحطاط للثفافة العربية الإسلامية. فبعد ما توفى الفيلسوف الكبير ابن رشد (1198)، ذهبت العقلانية من العالم الإسلامي، حين كان ابن رشد يدعو الى التنوير و العقلانية دعوة شائعة. فقد ضيّع المسلمون دعوته, بل أخذوا أن يقفوا موقف العدوان و الهجوم أمام فكرته. و كان أوربا على العكس, حيث استقبل ابن رشد و فكره المستنير. فكأن الله خلق ابن رشد لأوربا, و ليس للمسلمين. و ازدادت حالة الإنحطاط بغزو المغول المدن الإسلامية المشرقية. هدم المغول و أحرق سمرقند و الراى (طهران) و بغداد اللأتي هن مراكز الحضارة الإسلامية المشرقية أنذاك.

فإذا كان ذلك القرن هو بداية عصر الإنحطاط للمسلمين, فإنه بداية عصر جديد لأوربا, و دخوله باب تاريخه الجديد أيضا. وقد حكى التاريخ أن أوربا لا يدخل عصره الجديد إلا بعدما تعارف و ترجم و نقل الثفاقة العربية الإسلامية الى ثقافتهم. فهناك فضل العرب و المسلمين على أوربا. و تأثّرت الحضارة الأوروبية بالحضارة العربية الإسلامية.
;
*****
إن قيام الدولة الإسلامية في الأندلس و صقلية قد أعطى منافع كبيرة لأوربا. حضر الإسلام في هذين القطرين وهو يحمل سراج الدين الهادى و لواء الحضارة العظيم و شهاب المعرفة المنير. و أصبح الأندلس و صقلية مدخلين رئيسين لدخول المعرفة من العربية الى الأوروبية. قامت المجالس و المدارس العلمية في سائر المدن الإسلامية الأندلسية و المغربية, مثل مدرسة قرطبة, و الزهراء, و إشبيليه, و طليطلة (الأندلس), و فالمرو (صقلية), و دار العلوم (مراكش). درست فروع المعرفة العدة, سواء كانت من علوم الأوائل أو الأواخر, الشريعة أو العجم. كان الأوروبيون يدرسون في تلك المدارس, و يحضرون في تلك المجالس أفواجا.

في سنة 1085 سقطت مدينة طليطلة من أيدي المسلمين إلى المملكة الإسبانية النصرانية. كانت طليطلة في العهد الإسلامي احدى مراكز المعرفة الأندلسية. فبعدما استولت المملكة الإسبانية عليها, تمتّعت بمركزيتها العلمية. أمر الملك ألفونسو السابع (ملك إسبانيا وقتئذ. ت. 1157) بترجمة المؤلفات العربية الى اللغة اللاتينية. واتبعه في ذلك مطران قشتلة ريموندو (ت. 1152). أسّس المطران مدرسة المترجمين الطليطلية (Colegio de Traductones Toledones) و أدخل الدراسات الإسلامية كالمادة الدراسية في مجالسه العلمية. و تمت الترجمة تحت أيدي يهود الأندلس. كان أكثرهم يفهمون و يجيّدون اللغتين العربية و اللاتينية .فمن أشهرهم دومينيكوس غونداسلافي, و يعقوب بن ماري, و ليفي بن جنسن.

بدأت رياح التنوير تنفخ في أوربا. ترجمت عدة المؤلفات العربية الإسلامية الى اللاتينية في سائر فروع المعرفة: كالطب و الفلك و الحساب و الكيمياء و فيزيا و ميتافيزيا و علم الحياة و التاريخ و الأدب و الفلسفة و الجغرافيا و السياسة و الموسقي و علم النفس و غير ذلك.

فمن المؤلفات المترجمة التي أكثر تأثيرا لأوربا هي مؤلفات ابن رشد الفلسفية مثل "الكشف عن مناهج الأدلة في عقائد أهل الملة", و "تهافت التهافت", و "فصل المقال عي تقرير ما بين الشريعة و الحكمة من الإتصال", وكذلك شروحه على الفلسفة الأرسطية. بل فهم الأوربيون حقيقة الفلسفة الأرسطية وقتذك من شروح ابن رشد.

انبزغ فجر الفلسفة الجديدة في أوربا بفضل ابن رشد. درس الأوربيون فكرة ابن رشد الفلسفية. وهم معروفون بالرشديين اللاتينيين أو أهل المدرسة الرشدية ((Averroism School. أصبحت فكرة المدرسة الرشدية معارضة على فكرة الكنيسة و رجال الدين النصرانيين الذين سيطروا و احتكروا التفسير الديني و الحياة كلها, كأنهم ملاك الحقيقة المطلقة. حرّمت الكنيسة الفلسفة. و أوجبت الأمة على أن يقلدوا كل ما قررته عليهم. . فقام الرشديون اللاتينيون يتبعون ابن رشد حول مسألة التوفيق بين الفلسفة و الدين, بين الحكمة ة الشريعة, بين العقل و النقل. و قالوا أمام الكنيسة: أن الحق لا يضاض بالحق, و أن الفلسفة أخت للشريعة. أخذ الرشديون أن يحرروا التفسير الديني المسيحي من احتكار الكنيسة. يريدون أن يفسروا المسيحية بالروح العقلانية و الإنسانية.

أصبحت المدرسة الرشدية هذه كالمثال للحركة العقلانية في أوربا حينذك, بل حتى القرن السابع عشر. درست و تطورت و ازدهرت فكرة ابن رشد في الجامعات الأوروبية مثل دومينيكان, و فرانسيسكان, و باريس, و بادوا, و بولونيا. ومن أبرز الرشديين: ألبيرت الأكبر (ت.1280), و القديس توما الأكويني (ت. 1273), و إسحاق البلاغ, و سيجر دي برابنت (ت. 1280), و روجر باكون (ت. 1283), وغيرهم.

*****
وفي صقلية. تدهورت ترجمة المؤلفات العربية الى اللاتينية في عهد الملك روجر الثاني (ت. 1154). كان الملك روجر هو ملك صقلية الذي أحب الثقافة العربية الإسلامية حبا جزيلا. ليس فقط يحب المعرفة العربية الإسلامية فحسب, بل أيضا يحب تقاليدها. فقد تجيّد اللغة العربية, و يحب أن يلبس الملابس العربية.

كان الإدريسي (ت. 1166) عالما جغرافيا أندلسيا كبيرا. أبدع الإدريسي صورة خريطة الأرض. و هى وقتئذ عمل إبداعي عظيم. أهداها الإدريسي الى الملك روجر الصقلى, كما أهداه كتاب الجغرافيا الضخم المسمى ب"نزهة المشتاق في إختراق الأفاق". و هذا الكتاب معروف لدي الأوروبيين باسم "كتاب روجر" (The Book of Roger). و ترجم هذا الكتاب الى اللاتينية سنة 1619, و أصبح كالمرجع الأساسي للدراسة الجغرافية في أوربا.

سلك الملك فريدريك الثاني (ت. 1250) السبط سُنّة الملك روجر الجد. كان مثل جده, يحسن اللغة العربية و يطرب لشعرها و أدبها. لقد أحب الفلسفة كثيرا. أسّس جامعة بولونيا. و أمر الملك علماءها بترجمة المؤلفات العربية الإسلامية, خصوصا بالمؤلفات الفلسفية لإبن رشد و شروحه. فمع مرور الوقت, أصبحت جامعة بولونيا مركزا لدراسة الطب, و جعلت بعض الكتب الطبية العربية مقررا لها, مثل "كتاب التصريف" للزهراوي (ت. 1013), و "القانون" لابن سينا (ت. 1037), و "كتاب المناظر" لابن هيثم (ت. 1040), و "الكليات" لابن رشد, و غيرها.

استمرت حركة الترجمة الأوروبية. ففي القرن السابع عشر (1616), طبعت ترجمة القران الكريم في اللغة اللاتينية بمدينة بازيل, سويسرا. و اتبعتها الطبعات الألمانية و الهولندية و الإيطالية ببضع سنين. و ظلت هذه الحركة تستمر. فترجم جوش سالي (ت. 1736) القران الكريم الى الإنجليزية. و ترجم أيضا المستشرق الألماني الكبير جون ولفجانج جوته (ت. 1832) القران الكريم الى الألمانية ترجمة جديدة أحسن من قبل كما ترجم بعض الديوان الشرقي. و هكذا جوزيف فون هامر فورتجلاش (ت. 1856) الذي ترجم المؤلفات العربية و الفارسية و التركية المهمة الى اللغة الألمانية.

*****
في وقتما بلغ العرب و المسلمون عصر النهضة الحضارية و الإزدهار المعرفية (و كان ذلك في القرن التاسع حتى الثاني عشر على سبيل التحديد), لا يزال أوربا في ظلام المعرفة و الحضارة. بل أعلم العرب بتراث اليونان من اليونانيين و الأوروبيين. قصد الأوروبيون المدن الإسلامية, خصوصا في الأندلس و صقلية, لأنهما قريبان من أوربا بل جزئان منها. درسوا علومها, و أخذوا منها و ترجمواها و تأثروا بها. فعرف و تعارف أوربا العلوم و المعرفة بفضل العرب و المسلمين. بل كانت الحضارة الإسلامية جسرا حقيقيا لوصول أوربا عصر النهضة و التنوير. و هذا أمر لا ريب فيه.

يقول المستشرق الفرنسي جوزيف رينو (ت. 1867) في كتابه "تاريخ غزوات العرب": ان النهضة الأوربية لم تبدأ الا منذ القرن الثاني عشر. حيث أفاق الفرنسيون و الإنجليز و الألمان من رقودهم. و نفضوا عنهم غمار الخمول. و وجدوا ضرورة الإشتراك في الحضارة العربية. فأخذ المسيحيون في فرنسا و ما جاورها يؤمون الأندلس لترجمة الكتب العربية. و أصبح العرب الأمثلة العليا للشجاعة و الشهامة و عزة النفس و مكارم الأخلاق.
 
*****
فما فعله أوربا من ترجمة المؤلفات و نقل الثقافات و حوار الحضارات, قد سبقه العرب و المسلمون ببضع قرون. فالخلفاء العباسيون مثل أبي جعفر المنصور, و الرشيد, و الأمين, و المأمون, أمروا العلماء بأن يترجموا التراث و المؤلفات الأجنبية كاليونانية و السريانية و الفاريسية و الهندية. أسسوا بيت الحكمة كمكتبة و جامعة و مدرسة علمية عظيمة. و اتبع الخلفاء الفاطميون في القاهرة و الأمويون في الأندلس أمر الخلفاء العباسيين. قام المعز لدين الله و العزيز لله—خليفتا الفاطمية—بتأسيس الجامع الأزهر و مكتبة العزيز في القاهرة, مثلما أسس الحكم الثاني و عبد الرحمن الثالث—خليفتا الأموية—مدرسة قرطبة و مكتبة الزهراء في الأندلس. و هذا هو بداية دخول الحضارة الإسلامية عصرها الجديد: عصر النهضة و ازدهار المعرفة. فاحتل بغداد, و القاهرة و قرطبة أهمّ مركز المعرفة في العالم.

تلك الظاهرة قد أعطتنا العبرة العظيمة. إن الحضارة لا تقوم و لا تتطور إلا بعد ما تتعارف و تحاور مع حضارة أخرى. فالحضارة اليونانية القديمة تقوم و تتطور بعدما أخذت بعض التراث المصري, و الحضارة